30-01-2023 | 05:00

ميناء الفاو والخليج العربي... غضب إيران من ضياع مشروعها

القلق القومي الذي انتاب إيران خلال الحرب العراقية-الإيرانية، يبدو أنه قد تجدد بعد "خليجي 25".
ميناء الفاو والخليج العربي... غضب إيران من ضياع مشروعها
Smaller Bigger
ما زال الإيرانيون يخوضون الحديث في ما اقترفه، من وجهة نظرهم، رئيس وزراء العراق محمد شياع السوداني من ذنب، باستخدامه مُسمى "الخليج العربي" بدلاً من التسمية الإيرانية "الخليج الفارسي" إبان افتتاح بطولة كأس "خليجي 25" في البصرة في 6 كانون الثاني (يناير) 2023. فلم تكتف طهران بمطالبتها بغداد بالاعتذار عن هذه التسمية؛ بل كان رد السوداني، الذي أكد أن العراق جزء من المنظومة العربية وحريص على ديمومة العلاقة مع دول الخليج العربي، سبباً لاستشاطة غضب إيران. 
 
وأعلنت الخارجية الإيرانية، الخميس الماضي، توجيه مذكرة احتجاج رسمية إلى بغداد. ثم ذكّر نائب الرئيس الإيراني للشؤون الاقتصادية والقائد السابق للحرس الثوري، محسن رضائي، العراقيين بحربهم مع إيران، قائلاً إن مصير صدام حسين في انتظار من قاموا بتحريف اسم الخليج. وكان رضائي قد أشار بوضوح إلى التعبئة القومية العربية في مواجهة الفارسية خلال هذه الحرب. 

لكن هذا القلق القومي الذي انتاب إيران خلال الحرب العراقية-الإيرانية، يبدو أنه قد تجدد بعد "خليجي 25"، حتى أن المدير العام لشؤون الخليج في الخارجية الإيرانية، رضا عنايتي، أفرد العديد من الحوارات والمقابلات الإعلامية لتأكيد أن ما حدث في العراق يتعلق بأهداف قومية عربية وخليجية.

مبدئياً، من حق إيران مثل أي دولة أن تدافع عن تاريخها وامتدادها الثقافي والجغرافي، ولا غبار في ما تُحضّره من وثائق تتعلق بأصالة تسمية الخليج الفارسي في كتب المؤرخين والرحالة القدامى. لكن كما لها هذا الحق؛ فمن حق الدول الأخرى أن تحافظ أيضاً على هويتها القومية بأبعادها المختلفة الثقافية واللغوية والعرقية والدينية، لأن هناك من الوثائق القديمة ما يشير أيضاً إلى مسمى الخليج العربي وخليج القطيف وخليج البصرة. 
 
إذاً، فإن هذا الغضب الإيراني أبعد من مجرد الخلاف على تسمية الخليج؛ بل يذهب إلى استراتيجية قومية لدى إيران تراهن على عالم ما بعد النفط، تخضع فيه دول الخليج العربي للهيمنة الإيرانية بعد أفول نجمها! وتكون لإيران حينئذ الكلمة العليا في مصير الشعوب العربية المتشاطئة على مياه الخليج.

ازدواجيّة معايير
يقع بحر قزوين في شمال إيران وتطل عليه دول روسيا وتركمانستان وكازاخستان وأذربيجان، وإن كانت إيران تُسميه "بحر الخزر" أو "بحر مازندران"، إلا أنها لم تطلق السهام على الدول المتشاطئة عليه، التي لا تعتمد هذه التسمية الإيرانية الأقدم وتستخدم التسمية الإنكليزية "بحر قزوين"؛ وهو ما يدل إلى ازدواجية إيرانية في التعامل مع دول الخليج العربي. 
 
بل حتى، هناك في ذهنية القوميين الإيرانيين، أن هذا البحر هو ملكية خالصة لإيران بموجب الوثائق التاريخية. وذهبوا إلى أن إيران تنازلت عن 50% منه خلال العهد البهلوي، حينما حكمت روسيا السوفياتية منطقة دول شمال إيران. ثم اتهموا الجمهورية الإسلامية ببيعها هذا البحر بموجب "معاهدة بحر قزوين" التي تم التوقيع عليها عام 2018. 
 
 
 
 
ثم انبرت بعدها الأقلام الموالية للنظام الحاكم تدافع عن قبول التوقيع على هذه الاتفاقية، وتعتبر أن كل ما يدار عن حق إيران التاريخي في بحر قزوين أو امتلاكها نسبة 50% منه، مجرد أوهام وأكاذيب لتخوين النظام الحاكم، بينما واقعياً، فإن السياسة التي اتبعتها إيران تؤكد أنها تخلت عن بحر قزوين، ولكنها تناطح العرب على الخليج!

استراتيجيّة قوميّة
يتعلق غضب إيران بقلقها على استراتيجيتها التي تعتمد على إحياء موقعها التاريخي وطرقها القديمة في رسم الملامح الجيوسياسية والاقتصادية الجديدة، من خلال استعادة أهمية جغرافيتها كجسر بري وبحري يربط بين دول شرق المتوسط ودول وسط آسيا وجنوبها وشمالها. وتمر هذه الاستراتيجية عبر العراق وسوريا. كما يتطلب تحقيقها السيطرة على العراق المجاور لها، وهو ما حققته الجمهورية الإسلامية بعد سقوط نظام صدام حسين الذي كان يمثل عقبة قومية في وجه القومية الفارسية.

ولكن بعد سقوطه وهيمنة الأحزاب والميليشيات الشيعية المدعومة من إيران على المشهد العراقي، سواء سياسياً أم اقتصادياً أم حتى ثقافياً باسم المقاومة ونصرة الحسين والدفاع عن آل البيت؛ نجحت إيران في إسقاط العراق في مستنقع وحل يصعب خروجه منه. 

وكانت القطيعة العربية للعراق فرصة استغلتها إيران لمحو هويته العربية، وتعاملت معه على أنه فناء خلفي لها وجزء من امتدادها التاريخي الفارسي والشيعي. وكان هذا الواقع مشجعاً لإيران في استكمال استراتيجيتها نحو شرق المتوسط عبوراً من العراق. إلى أن عادت الدول العربية لاحتضان العراق وظهور محور الشام الجديد، وتقاربت دول الخليج معه لتحقيق التوازن أمام إيران. وكان نجاحه في استضافة الدورة الرياضية "خليجي 25" في محافظة البصرة، صدمة كبيرة للإيرانيين؛ لأن هذا النجاح حطم الصورة التي رسختها سرديات الآلة الإعلامية الإيرانية من أن العراق ليس عربياً وإلا فلماذا لم ينضم إلى دول مجلس التعاون الخليجي. وأن العراق يعيش في كنف أمان الميليشيات الشيعية التي قادها فيلق القدس الإيراني في مواجهة تنظيم "داعش". فضلاً عن صدمتهم من رئيس الوزراء العراقي الذي ينحدر من الإطار التنسيقي الموالي لطهران؛ ومع ذلك يتمرد على فرض تعاليمها عليه ويعلن أن العراق والخليج عربيان.

ولذلك تقاتل إيران من أجل تسمية الخليج؛ لأن هذا الأمر يتعلق بمحاصرة هويات دول الجوار الإيراني لحماية استراتيجيتها، فمحافظة البصرة العراقية التي لطالما تسعى إيران إلى الهيمنة عليها، تقع على مسار الطريق نحو شرق المتوسط، والمرونة في تسمية الخليج فرصة للدول الخليجية لإبراز هويتها في مواجهة الهيمنة الإيرانية، كما بمثابة خطر يهدد أمن إيران القومي، لأن جزءاً من مدنها الجنوبية يتمتع بأغلبية عربية.

رهان على أفول الخليج
بنت إيران استراتيجيتها على تصور عصر ما بعد النفط؛ إذ راهنت على انسحاب السفن التجارية من منطقة الخليج بعد نضوب حقول النفط؛ ومن ثم ركزت على الممرات التجارية، وشرعت في بناء ميناء تشابهار المطل على بحر عمان ليكون همزة الوصل بين جنوب إيران وشمالها. 
 
لكن دول الخليج قاومت احتمال ذلك الأفول، من خلال عقدها اتفاقيات استراتيجية مع القوى الاقتصادية الصاعدة: الصين والهند وروسيا، تضمن لموانئها أن تتحول إلى شريان وممر تجاري للوصول شمالاً. 
وكذلك، جاء الاتفاق الإبراهيمي كضرورة ملحة أمنياً واقتصادياً لمواجهة الاستراتيجية الإيرانية، إذ يضمن هذا الاتفاق أن ترتبط حركة التجارة في منطقة الخليج بالتجارة في منطقة البحر المتوسط وأوروبا. فالهند تستطيع بحجم إنتاجها الزراعي الضخم أن توصل تجارتها من منطقة جنوب آسيا إلى داخل الخليج وصولاً إلى شرق المتوسط عبر الموانئ وخطوط النقل البري والسكك الحديدية.

ولذلك، لم يكن ما تسرده الدعاية الإيرانية من تفسير لغضب طهران من دول الخليج يقارب الحقيقة؛ إذ تتهمها بالتقارب مع إسرائيل وبالتبعية للغرب والهيمنة الأميركية؛ بينما الواقع أن إيران غاضبة من تصدي هذه الدول لأهدافها القومية التي تمنحها اليد العليا في رسم خريطة التجارة والمصالح الاقتصادية في المنطقة. كما تجد إيران في أدبيات المقاومة والتصدي للهيمنة الغربية آلية ناجعة في تجنيد العقول والميليشيات لتهديد أمن دول الخليج، وهو ما نشهده واقعياً مع الحالة اليمنية بتجنيدها لميليشيا الحوثي الشيعية.

الفاو الكبير
وفي إطار الاستراتيجية القومية، وضعت إيران العراقيل أمام مشروع العراق العملاق "ميناء الفاو الكبير" الذي يقع في شبه جزيرة الفاو جنوب محافظة البصرة، والذي دُشّن عام 2010. حتى أنه خلال حكومة رئيس الوزراء العراقي السابق مصطفى الكاظمي، اعتبرته الأحزاب المناوئة لإيران، ومنها التيار الصدري، بمثابة الفرصة الأخيرة لتحرير العراق من قبضة الهيمنة الإيرانية، فضلاً عن تحوله إلى مشروع تنموي استراتيجي يتعلق بمستقبل العراق بعد أفول عصر النفط، وفرصة سياسية لتعزيز موقعه الاستراتيجي ومكانته على الساحة الدولية.

وتدرك إيران أنه في حالة إتمام هذا المشروع، فإن ذلك سيُضعِف من استراتيجيتها في الوصول إلى شرق المتوسط، وكذلك ممرها الاستراتيجي "شمال-جنوب" الذي يربط منطقة الخليج بشمال إيران. ولذلك تستغل ميليشياتها وأحزابها في العراق لفرضه قرارها السياسي الذي يضمن لها مصالحها الاقتصادية. إن الموازنة الضخمة التي يحتاجها هذا الميناء تعرقل إتمامه. وبناءً على ذلك، تحرص إيران على استنزاف موارد العراق، بما يعجزه عن تطوير بناه التحتية والاستراتيجية، فضلاً عن تشكيك الأحزاب الموالية لإيران في جدوى هذا الميناء، الذي يمكن أن تعيق التربة الصعبة لمياهه استقبال السفن العملاقة، ومن ثم يتحول إلى مجرد ميناء صيد. إلى جانب التهديدات الأمنية لحركة التجارة داخل العراق عبر ميليشياتها، على غرار ميليشياتها في اليمن التي تهدد التجارة العابرة من باب المندب والبحر الأحمر.

وما تخشاه إيران، هو نجاح إتمام هذا الميناء؛ لأنه سيخفف من يد إيران وتجارتها إلى داخل الحدود العراقية. وسيجعل من الممر البري وخط السكك الحديدية الذي تسعى إلى إنشائه، وصولاً إلى سوريا مروراً بميناء البصرة ذي الأهمية الأقل. 
 
بل إن هذا الميناء سيعيد للعراق مكانته العربية والخليجية التي لطالما يهزأ بها الإيرانيون؛ لأنه سيدخل في منافسة مع موانئ إيران الجنوبية. وهو ما اعترف به رئيس لجنة الشحن والنقل في غرفة إيران التجارية، علي حسيني الذي حذر من أنه يمكن لهذا الميناء العراقي أن ينقل تجارة الخليج نحو تركيا وأوروبا ونحو الأردن وسوريا والبحر المتوسط، عبر الطرق البرية والسكك الحديدية، بينما راهنت إيران على موانئها الجنوبية في القيام بهذه المهمة. ولذلك ما أعلنه المدير العام لموانئ خوزستان، بهروز آقايي، من أن الحكومة الإيرانية تخطط لتعميق حوض ميناء الخميني إلى 30 و40 متراً؛ مؤشر إلى جدية القلق الذي ينتاب إيران من ميناء الفاو العراقي المجاور لهذا الميناء الإيراني.

المحصّلة
إن الغضب الإيراني من مسألة تسمية الخليج لا ينحصر في مسألة تاريخية التسمية الإيرانية؛ لأن هناك مسميات تاريخية أخرى سومرية وأكادية وعربية. لكن الأمر يتعلق بالاستراتيجية القومية التي اتبعتها الجمهورية الإسلامية، والتي حطمت من أجلها العراق؛ وهي استعادة إيران مكانتها الجغرافية التاريخية للربط بين البحر المتوسط وصولًا إلى ما وراء بحر قزوين ومنطقة القوقاز.

رهنت إيران استراتيجيتها القومية بفشل دول الخليج في مرحلة ما بعد أفول النفط، وكذلك باستمرار احتفاظها بالعراق وتكبيله في يدها. لكن دول الخليج العربي واجهت خطط إيران بالاتفاقيات الاستراتيجية مع القوى الصناعية الكبرى؛ لكي تضمن لموانئها عدم أفولها. وكذلك، بالنسبة إلى العراق، فإنه يستشعر محيطه العربي ويقاوم الهيمنة الإيرانية في مسعى منه للحصول على قدر من الاستقلالية.

إن مخاوف إيران من إتمام إنشاء ميناء الفاو العربي؛ هي الترجمة العملية لسبب غضبها من التسمية العربية للخليج؛ فإن كانت لا تغضب من تسمية بحر الخزر باسم بحر قزوين؛ لكنها بالنسبة إلى الخليج حيث هناك عالم جديد يتشكل قد يسحب البساط من موانئها وممراتها التجارية نحو أوروبا. فإن إتمام ميناء الفاو يعني أن حركة التجارة يمكن أن تذهب إلى أوروبا عبر العراق مروراً بتركيا. ويمكن أن تأتي الصين بتجارتها عبر باكستان وصولاً إلى هذا الميناء، ثم الانتقال براً إلى الشام ومصر وشمال أفريقيا.
العلامات الدالة

الأكثر قراءة

كتاب النهار 7/25/2025 4:23:00 AM
 حوادث  السويداء الأسبوع الماضي لم تكن مجرد حادث عرضي ومشكلة جوار بين دروز المحافظة والبدو المقيمين فيها وفي جوارها. هي حلقة خطيرة في مسلسل التحديات التي يواجهها النظام الجديد.
سياسة 7/23/2025 9:59:00 PM
تحويل مبلغ مالي كبير من الحساب المصرفي لسفارة الجمهورية اللبنانية في برلين إلى حساب مجهول  
سياسة 7/24/2025 5:06:00 PM
بيان لعشيرة زعيتر بعد الاستهداف في البقاع 
سياسة 7/25/2025 8:34:00 AM
الإفراج عن جورج عبدالله وسيُنقل من باريس إلى لبنان اليوم