أكدت دراسة حديثة أجراها فريق من الباحثين المصريين نجاح التجربة المصرية في التعامل مع فيروس التهاب الكبد الوبائي "سي". وعرضت الدراسة، التي نشرتها دورية "نيو إنجلاند جورنال أوف ميديسن" New England Journal of Medicine، في 19 مارس الماضي، نتائج البرنامج القومي المصري للكشف عن الفيروس، الذي نجح في مسح قرابة 50 مليون مواطن.

يعود تاريخ تفشِّي وباء الالتهاب الكبدي الفيروسي في مصر إلى حملات مقاومة مرض البلهارسيا في خمسينيات القرن الماضي؛ فلعدة عقود، استخدم أطباء المناطق الريفية حقن عقار الطرطير المقيئ من أجل علاج البلهارسيا. ونظرًا لعدم معرفتهم بوجود الفيروسات التي تنتقل عن طريق الحقن، كان الأطباء يعيدون استخدام المحاقن الزجاجية لعشرات المرات، دون أن يعلموا أنهم ينشرون عدوى الالتهاب الفيروسي سي بين آلاف المرضى. وأمام الأعداد الكبيرة من مرضى البلهارسيا التى تصطف أمام الوحدات الصحية في القرى والمدن تجاهلت الفرق الطبية تعقيم أدواتها الطبية، ولو باستخدام أبسط الطرق المتعارف عليها وهي الغلي.

اتُّخذت إجراءات عدة لمواجهة هذا التفشي، كان أبرزها ما جرى في عام 2006، عند إنشاء اللجنة القومية لمكافحة الفيروسات الكبدية برئاسة وحيد دوس، أستاذ الجهاز الهضمي والكبد في كلية الطب بجامعة القاهرة. عملت اللجنة على توفير الأدوية المتاحة في ذلك الوقت بسعر يتناسب وظروف المرضى المصريين. وبحلول عام 2013، أنشأت مصر 25 مركزًا لمكافحة الالتهاب الكبدي عبر الجمهورية. وفرت هذه المراكز العلاج لقرابة 50 ألف مريض سنويًّا على نفقة الدولة. لكن نسبة النجاح للعلاج المتاح في ذلك الوقت بلغت 40% فقط.

في العام ذاته، كانت شركة "جلعاد" تعلن أن هناك أملًا جديدًا لعلاج الفيروس من خلال دواء جديد عُرف بـ"السوفالدي" (سوفوسبوفير)، كان يتكلف نحو 84 ألف دولار لكل مريض. لكن لجنة مكافحة الفيروسات الكبدية أقنعت الشركة بأن الحكومة المصرية ستتخذ إجراءات صارمة لمنع بيع الدواء في السوق السوداء، من خلال إجراءات تضمن حصول المريض المستحق فقط على الدواء.

ووفق "دوس"، قررت "جلعاد" تقسيم دول العالم إلى ثلاث فئات، وفق الناتج المحلي الإجمالي بمعيار البنك الدولي، إلى مرتفع ومتوسط ومنخفض. وعليه قررت الشركة بيع الجرعة العلاجية الكاملة (تشمل 3 أشهر) من الدواء في الدول ذات الدخل المرتفع بثمانية وثمانين ألف دولار، وللدول متوسطة الدخل بسعر ستة آلاف دولار، وللدول ذات الدخل المنخفض بتسعمئة دولار أمريكي. تم تصنيف مصر كدولة متوسطة الدخل، مما يعني أنها ستقدم لنا جرعة علاجية بستة آلاف دولار. كان هذا السعر يفوق قدرتنا على الدفع. أقنعت رئيس جلعاد بأننا قد نكون قادرين على دفع الثمن الأقل. جاء جون مارتن، الرئيس التنفيذي في وقت لاحق وعرض على مصر سعر الدول ذات الدخل المنخفض، أي تسعمئة دولار أمريكي.

ولكن حتى مع هذا السعر المخفض، لم يكن من الممكن أن تتحمل الحكومة المصرية تكلفة علاج ملايين المصابين بالفيروس، لكنها تفاوضت آنذاك مع منظمة التجارة العالمية للحصول على استثنائها من حقوق الملكية الفكرية من أجل إنتاج مجموعة الأدوية المضادة للفيروسات في مصر؛ إذ بدأت 20 شركة مصرية تصنيع سبعة أنواع من مضادات الفيروسات بتكلفة أقل بكثير من سعر السوق.

وبالرغم من بعض الاتهامات التي طالت العقار، مثل وجود علاقة بين التداوي بالسوفالدي والإصابة بالسرطان، إلا أن وزارة الصحة والسكان المصرية نفت أن يكون لاستخدامه تأثير سلبي على خلايا الكبد، أو أن ينتج عنه تكوين بؤر سرطانية، مؤكدةً أن "هذه المعلومة عارية تمامًا عن الصحة، وأنه لا علاقة لعلاج السوفالدي بالإصابة بالسرطان، وأن السرطان يأتي بسبب التليف الذي يكون في آخر مراحل الالتهاب الفيروسي الكبدي "F4"، سواء في وجود الفيروس أو بعد اختفائه بالعلاج"، الأمر ذاته أكدته دراسات أخرى مستقلة.

برنامج 100 مليون صحة

في عام 2018، قدم البنك الدولي لمصر قرضًا بقيمة 530 مليون دولار من أجل تدعيم برامج اكتشاف فيروس "سي" وعلاجه، وتحسين النظام الصحي بوجه عام من خلال برنامج لاكتشاف الأمراض المزمنة. ومع بداية أكتوبر 2018، أطلقت مصر برنامج 100 مليون صحة للكشف عن أمراض "التهاب الكبد الفيروسي سي"، وارتفاع ضغط الدم، والسكري، والسمنة لدى كل المصريين البالغين، وشملت الحملة أيضًا توفير العلاج المجاني للأمراض الثلاثة الأولى، وتوفير المشورة الصحية للمصابين بالسمنة.

يقول محمد حساني -استشاري الكبد بالمعهد القومي لأبحاث الأمراض المتوطنة والكبد بالقاهرة، والمدير التنفيذي لحملة "100 مليون صحة"، ومساعد وزير الصحة لشؤون مشروعات ومبادرات الصحة العامة، وأحد المشاركين في الدراسة- في تصريحات لـ"للعلم": هدفنا الرئيسي من هذه الحملة كان الوصول إلى مصر خالية من فيروس سي، وتقليل الوفيات الناجمة عن الأمراض غير السارية. وأضاف: من خلال الحملة قدمنا خدمات الكشف عن فيروس سي، وقدمنا معها خدمة المتابعة والتقييم من خلال مراكز العلاج ووحدات الصرف المنتشرة في جميع محافظات الجمهورية، هذا بالإضافة إلى استخدام السيارات المتنقلة أو منشآت الدولة المختلفة.

يقول إمام واكد -أستاذ أمراض الكبد والجهاز الهضمي بمعهد الكبد القومي، جامعة المنوفية، والباحث الأول في الدراسة- لـ"للعلم": بدأ التخطيط للحملة من خلال تجهيز قواعد البيانات وشراء الاختبارات المعملية في مايو 2018. وبعدها تم تدريب الأطقم البشرية، لتبدأ الحملة في 1 أكتوبر 2018، على أن تستكمل جهودها في مايو 2019.

مشاركة اختيارية

تشير دراسة نيوإنجلاند إلى أن الحملة استهدفت 62 مليونًا و505 آلاف و564 مصريًّا فوق عمر 18 عامًا. وعلى الرغم من أن المشاركة كانت اختيارية، كان حجم المشاركة كبيرًا للغاية؛ إذ شارك فيها 49,630,319 شخصًا، وهو ما يجعلها واحدة من أكبر حملات الكشف عن الأمراض في التاريخ. بلغ عدد الذكور المشاركين 24,018,428، بنسبة مشاركة بلغت قرابة 74,57% من الفئة المستهدفة. وفي المقابل بلغ عدد الإناث المشاركات 25,611,891، بنسبة مشاركة 84,53% من إجمالي المستهدف.

وتبيَّن من خلال الحملة أن عدد المصابين بفيروس "سي" كان أقل من التقديرات السابقة، وهو ما يدل على نجاح حملات العلاج السابقة باستخدام مضادات الفيروسات. وكانت نسبة الإصابة بالفيروس أعلى في الذكور مقارنةً بالإناث؛ إذ بلغ عدد المصابين الذين جرى اكتشاف إصابتهم بالفيروس في أثناء الحملة إجمالًا 2,229,328، بنسبة 4,61% من المشاركين في الحملة، وكانت النسبة في الذكور 5.37%، وفي الإناث 3.9%. كما كانت نسبة الإصابات في المناطق الريفية أعلى منها في المناطق الحضرية، وفي محافظات الدلتا وشمال وادي النيل (5.73%)، إذ كانت أعلى نسبة إصابة في محافظة المنوفية (8.43%)، وهي المناطق التي كان يتم فيها استخدام عقار الطرطير المقيئ لعلاج البلهارسيا على نطاق واسع.

خريطة انتشار الفيروس

يقول "واكد": استطعنا لأول مرة وضع خريطة لانتشار فيروس "سي" في كل أنحاء مصر بشكل دقيق، بالإضافة إلى ذلك، جرى التعرُّف على خريطة مرضى الضغط والسكري والسمنة، وتم تحويل هؤلاء المرضى إلى الأماكن المختصة لتلقي المشورة الطبية والعلاج.

بلغت تكلفة تطبيق برنامج الكشف والعلاج 207,139,177 دولارًا أمريكيًّا، ومثلت التكلفة الإجمالية للعلاج 70,041,177 دولارًا. لكن هذا الإنفاق كان في محله، إذ بلغ معدل الشفاء بالنسبة للأشخاص الذين جرى تشخيص حالاتهم وعلاجهم خلال الحملة 98.8% بتكلفة 130.62 دولارًا لكل حالة، في مقابل تكلفة تتجاوز 100 ألف دولار أمريكي يتسبب فيها العجز والوفاة الناتجة عن الإصابة بالفيروس، وفق الدراسة.

يضيف "واكد": من خلال هذا البرنامج، قدمت مصر نموذجًا أثبتت به أن المسح المجتمعي لعدد من الأمراض ليس مستحيلًا، وهو ما قد يجعل منها أول دولة في العالم تنجح في التخلص من فيروس "سي".

يجدر ذكر أنه كان هناك برنامج للكشف المبكر عن فيروس "سي" في فئة الأطفال، بدأ في فبراير 2019 للطلاب أكبر من 15 عامًا، وفي سبتمبر من العام ذاته للطلاب أكبر من 12 عامًا، ومن المقرر أن يستمر بعض مراكز الكشف في البرنامج لمدة عام؛ لتغطية أكبر عدد ممكن من الأطفال.

يعقب "حساني" على الأمر بقوله: تشتمل المرحلة الثانية من مبادرة القضاء على فيروس "سي" على عدة محاور: الأول هو الاستمرار في الكشف عن الفيروس في 5 فئات، تشمل الطلاب والبالغين ومرضى الأقسام الداخلية بالمستشفيات، والفئات الأكثر عرضةً للإصابة (مثل مرضى الكلى ونقل الدم المتكرر)، وكذلك المتبرعين في بنوك الدم والأشخاص الأكثر عرضةً للإصابة بفيروس "بي".

والمحور الثاني هو محور العلاج، الذي يستهدف أيضًا العديد من الفئات، أما المحورالثالث فهو محور الكشف المبكر عن أورام الكبد ومتابعة مرضى التليف الكبدي من أجل تقليل حدوث المضاعفات، وتقليل نسب الوفيات الناتجة عن أمراض الكبد، وفق "حساني".