شبكة قدس الإخبارية

كيف كتبت أطفال الندى/ محمد الأسعد

هيئة التحرير

((بعد 23 عاماً على صدور الطبعة الأولى من رواية "أطفال الندى" للروائي والشاعر والناقد الفلسطيني محمد الأسعد، تُعيد دار الفيل في القدس نشر الطبعة الثانية(2013) من الرواية، التي ترجمت إلى الفرنسية والبرتغالية ولغات أخرى، ولم تصل إلى القارئ الفلسطيني داخل فلسطين المحتلة.

تقع الرواية في 120 صفحة من القطع المتوسط، ويحكي فيها الأسعد قصة تهجير أهل قريته أُم الزينات قضاء حيفا؛ ويسرد بذاكرة طفل عايش التهجير رواية الفلاح الفلسطيني للنكبة والتشريد؛ ويقف على ما سقط أو أُسقط من الموسوعات وكتابة التاريخ رسمياً.))

نترككم مع شهادة محمد الأسعد حول تجربة كتابة " أطفال الندى"
....
محمد الأسعد
"أطفال الندى" لم تكن هي أول رواية اكتبها، بل ذروة تدريب على كتابة رواية استغرق سنوات، استهدف الوصول الى "حالة" الكتابة، بحيث يتحول فعل الكتابة الى فعل تلقائي بريء ومنزه عن أي غرض، شأنه في، ذلك شأن نهر أو شجرة أو نسيم عابر أو زهرة تتفتح خارج المختبرات. وحين أقول بالفعل التلقائي والنزيه، لا أعني الفعل غير الواعي، أو الفعل خارج طاقات الانسان الفكرية والعاطفية وخارج ذاكرته، وانما أعني به الفعل الذي وصل به الانسان الى أن يكون فعلا ذاتيا. ينطلق السهم أو يطلق نفسه من يد الرامي ويصيب هدفه بلا أدنى جهد، وتتدفق الكتابة كأنما يكتبها "آخر" أو يمليها آخر. انها الكتابة ذاتها. ولا وظيفة للكاتب سوى الاصغاء.لم تدهشني عفوية هذه الرواية وهي تبنى يوما بعد يوم من دون تخطيط مسبق، ولا هذه الالتماعات والمفاجآت وهي تواجهني وأنا أكتب، فكأنني كلما أوغلت في كتابة أطفال الندى أوغلت في التعرف على أعماق منسية في ذاتي وفي الكون من حولي. ما أدهشني أكثر هو رد فعل عدد من القراء اختلفت مستوياتهم ومطامح حياتهم واشواقهم، والتقوا عند نقطة جوهرية وهي أن في الرواية شيئا حميما يمس كل واحد منهم ويتحدث اليهم.  سأعيد الآن ذكرى بعض من تجارب القراءة هذه. فاجأني الشاعر محمد القيسي بقوله "ما هذا الذي تنشره يارجل؟" وأساله "ماالأمر؟" فيقول "منذ أن قرأت الفصول المنشورة في "القبس" وأنا عاجز منذ ثلاثة أشهر عن كتابة أي شيْ، هذا هو بالضبط ما كنت "أريد" كتابته منذ زمن طويل". واضاف الشاعر خيري منصور شيئا مؤثرا. فبعد أن حدثته عن الرواية ووصفت بعض موضوعاتها، وجدته يقطع الحديث ويدخل في مناجاة ذاتية سرد فيها شفاهة طرفا من سيرة حياة قريته وزمنها واناسها. لقد بدأ يتذكر كأنما حديثي كان لغما مفجرا لشىء في داخله. أما الروائي والناقدغالب هلسا، فبعد أن قرأ مخطوطة الرواية قبل النشر، استيقظ فيه موضوع عن الذاكرة الفلسطينية، فكتب نصا موازيا للرواية ونشره، وجاء فيه انه يعتقد أن روايتي "نص فريد في اللغة العربية ". هذه مجرد امثلة على ردود افعال، وهي ردود اكثر عددا مما ذكرت. ثمة أمر آخر يتعلق بالشعرية. فللوهلة الأولى يكتشف البروفيسور يوسف الغازي المهاجر من مصر إلى فلسطين حين وقعت بين يديه الرواية أن ما يقرأه شعر خالص، وسيكرر الأمر نفسه أستاذ اللغة الإنجليزية الفرنسي ميشيل بيتيت حين يقرأها مترجمة ً إلى الفرنسية. كل هذا جعلني أتساءل عن السر الذي يقف وراء القدرة الواضحة لنص من هذا النوع على تفجير كوامن في نفس كل قارىء على حدة، وعلى تلبية شروط شعرية تكتشفها ثقافات مختلفة. لم يقتصر الأمر على جنسية قارىء دون أخرى، فرد الفعل كان واحدا لدى الفلسطيني والجزائري والانكليزي والفرنسي والعراقي. اذن لا تعلق للأمر بجنسية أو "قضايا" خاصة بهذه المجموعة البشرية أو تلك، ولم يقتصر الأمر على الكتاب من شعراء أو روائيين أو نقاد، بل امتد ليشمل الناس العاديين اللذين لا يمتهنون الكتابة. اذن ليس الأمر أمر نخبة خاصة رأت مارأته لانه يخصها، بل أمر "الانسان" على مختلف اهتماماته ومستوياته. ماهو السر اذن؟ قلت في البداية، هذا نوع من النصوص "المفجرة " التي لم تألفها الثقافة العربية إلا نادراً، نوع يقود القارىء الى المناطق المحرمة في اعماقه، تلك التي احاطها أو أحيطت بسياج ثم نسيها ولم يعد يمر بها منذ زمن طويل. وقلت أن هذا التفجير يفترض أن يحمل النص سمات معينة، اسلوبية ولغوية ورؤيوية، ليكون بمثابة لغم يفجر في القارىء ما هو معتم ومكبوت في نفسه، وليحقق شعرية يبدو أنها تقع في أساس ما يفهمه كل إنسان بوصفه شعراً حتى مع إختلاف الثقافة والموضوعات. ولا شك أن التقاء "الفرنسي" القائل ان هذه الرواية فجرت فيه ذكرى قريته التي محتها الحرب أو قرار سياسي لا انساني، مع "الجزائري" القائل انها بعثت فيه اناس قريته وحياتهم، لذو دلالة على ما أذهب اليه. وذو دلالة أيضا ً أن تتفق عدة ثقافات في وضع يدها على مانسميه الشعرية في نص عربي من هذا النوع. بعد كل هذا أجد في نفسي ميلا الى الاستغناء عن تعبير "اللغم المفجر" ووضع تعبير آخر: هناك ما يُطلق عليه "حجر الفلاسفة " في تراث الماضي، أي ذلك التركيب الخيميائي الذي اعتقد القدماء انه اذا تم التوصل اليه فسيحول المعادن، جيدها ورديئها، الى ذهب. وأجد في نفسي الآن ميلا الى تبني هذا التعبير، ولكن بعد ن اسميه "حجر الروح" إذا شئتم. انه تركيب غامض بالطبع كما هو حجر الفلاسفة، وموضع تكهنات وحدوس وجهود فكرية. أعني انه ليس وصفة أو دليلا مشاعا، فهو تركيب يتم في فضاء داخلي لكل انسان على حدة، ولا يمكن أن يستعيره انسان آخر. ولكن، ولأن المطلوب ايضاح تفكيري في نصي، فسأقول اذن أن هذا التركيب جامع للعديد من العناصر. هو بمثابة التركيب أو الحجر المحول لكل وجدان يلمسه الى مادة اصلية ثمينة، لكل كائن بشري فيها نصيب، انها المهاد الانساني اذا شئتم، أو الكوامن التي تنبثق منها اشكال الفكر والحياة على الأرض، تلك التي لا يلمسها أو يعي وجودها الانسان، بل ينساها ويحولها الى مناطق محرمة بفعل الاعتياد، سلوكا وتعبيرا، الذي تفرضه كل ثقافة (دينية أو قومية أو لغوية) على افرادها ليكونوا صالحين للاندراج في قوالبها. هذه الكوامن تتخطى عادة كل القوالب، وتتلامح وراء الاشكال الفكرية والممارسات بوصفهانبضات الطاقة الحية الكامنة. مبدئيا أفكر بثلاثة عناصر أساسية تدخل في تركيب حجر الروح هذا.  الأول هو الاسلوب الفني. وأستعير هنا أهم سماته من الفن البصري، حيث تحتفظ الصورة دائما بأكبر قدر من الطاقة على الايحاء، أعني طاقة الايحاء المفجرة للمخيلة، وأستعير سمات أخرى أيضا من علم لم يولد بعد، علم تراسل الحواس الذي يحدث حين تخاطب الكتابة جملة من الحواس الانسانية أو تحدث تبادلا بينها بالوظائف، فتجعل المتخيل ملموسا أو الملموس مسموعا أو المسموع بصريا. وأضيف سمات أخرى انتقلت الى فن مثل السينما، وأعني بها التقطيع و"المونتاج". فهما يعتمدان على تقطيع وتركيب التسلسل الاعتيادي للأحداث والمرئيات، ويجاوران بين المنفصل ظاهريا فيتخطيان التسلسل الخطي زمانيا ومكانيا. وهذه عملية خلاقة من حيث الجوهر. وانه لأمر ذو دلالة مهمه أن يؤكد السينمائي الروسي "ايزنشتاين" انه استوحى فكرة المونتاج من قراءاته في الشعر الصيني والياباني. الثاني هو طريقة استخدام اللغة وهنا ألاحظ أهم سمات هذا العنصر: تجريد اللغة من عاداتها العامة والمشتركة، واستعادتها واعادة تكوينها لتصبح لغة خاصة فريدة تحمل بصمة تجربة شخص ما. شخص لا يتذكر التجربة بل يعيشها. مناط الأمر في تجديد اللغة هو أنها مايقال الآن توا، وليس المتذكر والمستعاد فقط. ولكي تكون اللغة هي المقول لا المتذكر، فان الكاتب هو الشخص لوحيد الذي يستخدم طاقاتها مجتمعة، فهي ليست إما فكراً أو عاطفة، إما خبرا أو تعبيرا، بل هي الفكر والعاطفة معا وهي الايحاء والتعبير والخبر ايضا. الثالث هو عنصر "الهولوجرامية" الفريد الذي تكشف عنه لمحات هنا وهناك في بعض التجارب الفنية. أعني بهذا العنصر منطق الرؤيا حين ينسجم مع منطق الواقع الأساس، حين يفكر الانسان بنفسه وبالعالم من حوله. مبدئيا نحن لسنا مركز الكون أو لا وجود لمركز وحيد في ا لكون بالأحرى، بل نحن جزء من شبكة أوسع أو كل أكبر، نحن والطبيعة والأخرون. وحين يكشف هذا الوعي عن نفسه في الكتابة نجدها اشبه بشظية من هولوجرام (صورة يصنعها شعاع ليزر في الفضاء وفق معلومات مكتوبة عليه) الا انها تحمل في ذاتها الهولوجرام مختزلا. فأية شظية من الشظايا أخذناها، يمكننا أن نطلق منها صورة هولوجرام كاملة، أي رؤية تتجلى فيها صورة الوجود أو أساس الوجود الباطن. أقرب تشبيه الى هذا هو الخلية العضوية الحاملة لصفات وسمات الكائن الانساني كاملة الا انها كامنة، وما أن تنطلق ممكناتها حتى تشكل كائنا بشريا. هذه اعجوبة ولغز العمل الفني في الحقيقة، والتي ماتزال بحاجة الى استقصاء، أما هنا فأن ما أوحاوله هو الاهتداء بهذه الرؤيا لفهم تأثير شظية مما يبدو هولوجراما كاملاً، أعني روايتي أطفال الندى. ماتعنيه هذه المفاهيم ( الكلية والشبكية والهولوجرامية وصولاً الى الخلية الحية) هو أن أي نص يتحرك على هديها يقارب رؤيا الى الوجود بوصفه علاقات تأخذ فيه الهويات معناها من السياق أو تكتشف معناها فيه. ويأخذنا هذا الموقف الوجودي الملموس في كل عمل ابداعي الى مواضع نرى فيها الوجود تجربة دائمة الحضور لا متناهية، حيث لا تتوقف الممكنات عن الظهور، ولا تتوقف العلاقات عن التكون في نمط تراكب يشير في وقت واحد الى ماض وحاضر ومستقبل ممكن. وهنا تخرج من الفن حسابات الحتمية والثبات والتكرار ويحل اللايقين والممكن والفعل الخلاق الذي لا سابق له. هل يتركب من كل هذا حجر الفلاسفة أو حجر الروح أو حجر الفن؟ ربما كان الأمر كذلك، ولكن هذه محاولة تفسير تظل بحاجة الى بحث دائم ترفده امثلة ونصوص عديدة ومتنوعة. فليس الأمر أن هذا النص أو ذاك فريد، بل الأمر أن الفن ذاته تجربة فريدة تعيش على الغامض والملتبس وتحيا به.