عادي

دبي.. مقدمة جديدة لابن خلدون

00:52 صباحا
قراءة 6 دقائق
رسم يوضح الإدريسي وهو يشرح كروية الأرض عند الملك الصقلي روجر الثاني
خريطة توضح مسار رحلة ابن بطوطة

محمد إسماعيل زاهر

(1)

«بعد ما يقرب من ثمانية قرون، وجدتني في أرض العمار على ساحل الخليج العربي، في إمارة دبي البهية التي ملأت الدنيا وشغلت الناس أمام صعود العرب مرة أخرى، فالعالم بأكمله هنا.. ليس من أجل الحرب والدمار ولكن من أجل الحوار والتعارف، تذكرت رعبي وإحجامي وترددي لسنوات قبل أن أمسك بالقلم وأكتب عن خروج التتر إلى بلاد الإسلام، تذكرت مرة أخرى انزعاجي وقلقي وأنا أؤرخ لحروب الفرنجة في بلاد الشام، وقلت في نفسي سبحان مغير الأحوال، وقررت بعد أن شعرت بالراحة والفخر والصفاء أن أكتب عن عز العرب في إكسبو».

في أحد أرجاء إكسبو قابلت المؤرخ الشهير ابن الأثير (555-630ه)، صاحب كتاب «الكامل في التاريخ»، وجدته مندهشاً بما يشاهده، وتمتزج الحيرة بالدهشة في نظراته، وفي عينيه ظل من خوف، لقد مر أكثر من ثمانية قرون على كتابه، وعلى حياة أمضاها في تتبع أخبار الفرنجة - الصليبيين، وها هو أمام عالم مختلف، والأهم من ذلك تغيرات حدثت في البوصلة وفي الجغرافيا والتاريخ، سألني بتردد «كيف وصلتم إلى كل هذا؟، وأردف قائلاً:« في زماننا لم يكن يمكن تخيل أن يجتمع العالم في مكان واحد، وفي زماننا كان العالم العربي على موعد مع التدهور في مختلف المستويات»، كان سؤاله وما تبعه من استدراك إشكالياً، ولكنه يرتبط بالماضي ويحتاج إلى عشرات الكتب التاريخية التي عليه أن يقرأها، كانت روح المؤرخ تتلبسه، ولكنني أخبرته أن درس إكسبو، بل درس الإمارات، ككل يتلخص في كلمة واحدة..«المستقبل»، عادت تعبيرات الدهشة والحيرة والخوف جميعها إلى عينيه، فقلت له بسرعة« حاول أن تكتب عن الغد»، وقبل أن تنسال أسئلته مرة أخرى غادرته لأكمل جولتي في إكسبو.

(2)

«قضيت سبعة وعشرين عاماً متجولاً في أرض الله الواسعة، عرفت بعد ذلك أنها أطول رحلة في تاريخ بني آدم، قبل اختراع ما يسمونه المحرك البخاري، في زماننا كانت البحر المحيط أو بحر الظلمات آخر ما يدركه الرحالة، وبرغم زيارتي للقسطنطينية والأندلس إلا أنني لم أدخل أوروبا.. كانت أرضاً مظلمة خاصة في شمالها ولم يكن بها مايغري الزائر، وأمليت وقتها على كاتب رحلاتي ابن جزي (وكنت أردت الدخول إلى أرض الظلمة.. ثم أضربت عن ذلك لعظم المؤونة وقلة الجدوى)».

سألني ابن بطوطة (703-799ه): «هل صحيح أن أرض الظلمة وتلك الأرض التي وراء البحر المحيط من أهم بلدان العالم في زمنكم؟»، قلت له « تلك مسألة يطول شرحها»، رد قائلاً بنبرة أسى« لم يعد لرحلتي أية قيمة، لقد اختصرتم ثلاثة عقود من التجول الذي لا يهدأ في أرض الله الواسعة إلى مكان تبلغ مساحته عدة كيلومترات»، قلت له« دعنا من هذا.. ماذا فعلت بعد أن أمليت رحلتك على ابن جزي، هل اعتزلت وبقيت في بيتك؟، هل توليت وظيفة ما؟»، وقبل أن يجيب، قلت له« أمامك فرصة ذهبية أن تكتب عن تلك الأمم والأماكن التي نشأت وازدهرت بعد زمنك، وستكون نقطة انطلاقك هنا من إكسبو».

(3)

«غمرني الأسى حين وجدت موطني– الأندلس، وقد تغير كثيراً، ولكن ما منحني العزاء أنني وجدت في أقصى الشرق العربي، مدينة تستعيد مجد طليطلة، تجمع الشعوب والملل والنحل والأعراق بين جنباتها، والأهم أنها أصبحت صلة وصل بين الشرق و الغرب، كما كان وطني في يوم ما».

في بداية الحديث، لاحظت قلقاً بالغاً يعتري ملامح صاعد الأندلسي (420-462ه)، أول ما حدثني عنه، تلك الشعوب التي يسمع باسمها للمرة الأولى، واسترسل قائلاً:« في كتابي طبقات الأمم وحتى في كتب أستاذنا الجاحظ كنا لا نلتفت إلا إلى أربع أو خمس أمم: العرب والصين والهند والرومان، ربما أضاف أحدهم أمة أو اثنتين، حيث كانت هذه الأمم أصحاب العلوم والفنون والصنائع»، قلت له:«لا تنس مرور ألف سنة على زمنك، ونحن نعيش في عصر ربما لا تزال السياسة تصنع تراتبية بين الأمم، ولكن نظرة المفكرين أمثالك تغيرت، وأصبحوا يميلون إلى المساواة بين الجميع»، فرد بلهفة من يود أن يعرف« في كتابي وددت القول إن العرب في زمني استفادوا من تراث الآخرين: ترجموه وحفظوه وأضافوا إليه في مختلف المعارف، فهل حدث الشيء نفسه في زمنكم؟»، فأجبته:«عليك أن تتجول في إكسبو لتحكم بنفسك».

(4)

«على امتداد البصر لا نهاية للعمران: البنايات والطرق والأسواق والحدائق والمساجد والمتنزهات والفنادق، يكبر حجم الشوارع ويتضخم وتكاد تختفي الأزقة والدروب والحارات، البناء يخطف العين ويأسرها في تقاطعات رأسية وأفقية، ويبدو أنني سأمكث لسنوات طويلة في رصد مفردات ومنمنمات هذا المكان».

كان تقي الدين المقريزي (764-845ه) صاحب الكتاب اللافت«المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار»، فرحاً وهو يحدثني عن مشاهداته في دبي، وقال:«لم أحب في حياتي شيئاً بقدر البناء، لقد أرخت للكثير من الأوبئة في كتب أخرى، شاهدت مئات الدور والبيوت مهجورة وخربة وخالية بعد هلاك أصحابها، البناء حياة واستمرارية وترجمة حقيقية لفكرة استخلاف الإنسان، والبناء هنا يكتسب أهمية مضاعفة، بسبب الصحراء»، ثم سألني:«كيف حققتم كل هذا في عقود قليلة؟»، فردد عليه «تلك قصة طويلة»، فملأه الفضول أكثر:«ألا تلخصها في كلمات قليلة؟، ألا تختزلها كما فعلتم في إكسبو؟»، وأمام شغفه قلت:«ربما حب التحدي وتحويل الأزمات إلى فرص والرغبة الملحة في استعادة العرب لمكانتهم وأدوارهم.. ربما تكون مفاتيح ترشدك إلى الإجابة عن سؤالك».

(5)

« ولدت في سبتة المغربية، وتوفيت في صقلية، وعملت مع ملكها النورماني روجر الثاني الذي كان يتشبه بالعرب في اللباس والهيئة ويهتم بالعلوم والخرائط على وجه الخصوص، صنعت كرة ضخمة من الفضة رسمت عليها خريطة العالم، وخريطة أخرى على شكل مستطيل تزن 400 رطل، وهي أكبر الخرائط المعروفة في زمني، وزودت خرائطي جميعها بالألوان: الأزرق للبحار، والأخضر للأنهار والأحمر للجبال، في كتابي (نزهة المشتاق) رسمت أيضاً أكثر من سبعين خريطة، وربما كنت أول خرائطيّ أشار إلى فنلندا».

مع الإدريسي (493-599ه) العالم ما هو إلا خريطة، ولذلك وجدته يتنقل بين الأجنحة الرئيسية في إكسبو، ويدخل أجنحة البلدان المختلفة، ويعود إلى ساحة الوصل لالتقاط الأنفاس بين كل زيارة وأخرى، ولم يلبث أن سألني:«هل رسمتم خريطة للعالم بأكمله هنا؟»، قلت له:«الإجابة عندك أنت»، ولم ألبث أن أشفقت على زياراته المتلاحقة، فقلت له:«اجلس قليلاً وتأمل»، فردّ بسرعة:«كيف أجلس.. أنتم تعتقدون أن الخرائطي لا يهتم إلا بإحداثيات المكان، وما المكان من دون ناس، الخرائطي يهتم بكل شيء..العادات والتقاليد، الزي، الطعام، الحكايات، طرائق الإدارة، الاختراعات..الخرائطي ابن الحياة، ولا يكتمل عمله إلا بإحاطته بمفرداتها كافة»، قلت له:«لماذا تزور أحد الأجنحة ثم لا تلبث أن تعود سريعا إلى ساحة الوصل، بإمكانك أن تزور أكثر من جناح قبل أن تعود أو تزورها جميعا دفعة واحدة»، فقال بثقة «الوصل مركز المركز أو مفتاح الخريطة التي لا يمكن الولوج إلى أجزائها من دون العودة إليه دائماً، في كل مرة تختلف الرؤية وتتسع الخريطة وتنفتح على مسالك وتقاسيم جديدة».

(6)

«العمران علم يشتمل على كل هذا، يضم التاريخ والجغرافيا والرحلة وقواعد الاجتماع ومعرفة دقيقة بالخرائط وتقاسيم البلدان ومفردات المكان، هو في النهاية إلمام بالقوانين التي تحكم البشر وتحركهم، لقد تأملت أحوالهم في مختلف الظروف، خلال الطاعون الأسود الذي اجتاح العالم عام 1323م، واجتياح تيمورلنك للمشرق العربي، وتابعت تصرفاتهم وفق أحوالهم المادية وأعمالهم وجذورهم من عملي بالقضاء واشتغالي بالتاريخ ومراقبتي لسلوكياتهم في زمن الشدة وزمن الرخاء، وكتبت مقدمتي للبحث عن عوامل قوة الحضارات بما يؤهلها للصعود، وللتحذير من انحلال لحمة العصبية التي تؤدي إلى الانحطاط».

سألت ابن خلدون (732-808ه):«كيف ترى إكسبو؟»، فرد قائلاً:«فاتحة جديدة للعرب والمسلمين، لقد رصدت القرون السبعة الأولى للإسلام، كنت شاهداً في نهايتها على التراجع والتدهور، جمعت التاريخ بين يديّ، وأعتقد أنني لامست الجرح في المقدمة، وأجبت عن السؤال المعضلة في زمنكم، لماذا نتراجع وكيف نصعد؟، ويبدو أن إكسبو، بكل خلفياته التي أدت إليه، يكبح هذا التراجع الذي امتد طويلاً لسبعة قرون أخرى، وهو قفزة كبيرة في طريق استعادة زمام المبادرة من جديد، إكسبو بداية لمقدمة أخرى أفكر في كتابتها بروح مغايرة »، «كيف يستمر الازدهار أو الصعود برأيك؟»، فأجابني «بالإرادة وعدم التراخي والتفاؤل والتخلص من نبرة التشاؤم ودراسة تجارب الآخرين الناجحة واستيعابها والإضافة إليها، وقد قطعتم شوطاً طويلاً في التحلي بكل هذه السمات، الأمر الذي يبشر بالخير».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"