مقالات سياسية

بروفيسور جون كلاودسيلي طومسون: شهادة تقدير وعرفان لعالم جدير بالاحترام

لعل من أكثر الشخصيات العلمية الأجنبية التي عملت بجامعة الخرطوم في ستينيات وأوائل سبعينيات القرن الماضي تأثيرا هو البروفيسور البريطاني جون كلاودسيلي طومسون John Cloudsley ? Thompson أستاذ الأحياء بكلية العلوم.
ولقد رأيت ذلك الأستاذ الشهير كفاحا وأنا في عامي الأول بالجامعة عام 1970م، وشاهدت بعضا من آثاره العملية التي لابد أنه جمعها من تجواله المستمر في أرجاء صحارى السودان الممتدة، مثل عظام حيوان بري ضخمة لم يجد لها قسم الأحياء مكانا غير سطح المبنى! ثم رأيت بعض كتبه تباع في مكتبة دار نشر جامعة الخرطوم، لا أزال أذكر أن أحدها كان بالاشتراك مع أستاذنا فيصل تاج الدين أبو شامة عن الحشرات البرية، قامت بنشره دار نشر جامعة الخرطوم وكان يباع بمبلغ عشرة قروش (وهو مبلغ زهيد حتى بمقاييس تلك الأيام)!
وجاء ذكر الرجل قبل أيام مع ثلة من خريجي الجامعة المخضرمين، حين زعم أحدهم أن جامعة الخرطوم كانت لبعض العلماء الأجانب تعرف بأنها هي تلك الجامعة التي يعمل (أو عمل) بها كلاودسيلي طومسون وزميل بريطاني آخر في قسم الكيمياء! فتأمل مبلغ شهرة أولئك الرجال الأفذاذ.
وليس أبلغ من دليل على مدى اتساع شهرة كلاودسيلي طومسون من أن غالب الصحف البريطانية الكبرى (مثل التلغراف والتايمز والجارديان والأسكتوسمان وغيرها) أفردت له صفحات كاملة لنعيه وتعداد مآثره العلمية، وكتب عنه جاك ديفس مقالا ناعيا في مجلة “دراسات السودان” في عددها رقم 49 الصادر في يناير 2014م (وهنا أشكر د/ نهلة عباس لإرسالها لي ذلك العدد من المجلة).
وهنا أحاول تلخيص بعض ما ورد من معلومات عن ذلك العالم في مصادر مختلفة. لقد ساهم كلاودسيلي – طومسون مساهمة كبيرة في زيادة المعرفة بعلم الأحياء والمخلوقات الحيوانية (funa) وسلوكها في بلادنا الشاسعة ذات المناخات المتعددة، خاصة تلك التي تعيش في مناطق صحراوية وتحت ظروف بالغة القساوة، وساهم أيضا – مع غيره بالطبع- في بناء كادر وطني من المتخصصين في علم الأحياء شرفنا بتلقي العلم على أيدي بعضهم مثل الأساتذة الأجلاء فيصل تاج الدين وأحمد عبد المجيد ولوريس غبريال.
ولد كلاودسيلي – طومسون في عام 1921م بميري في الهند (وهي تقع الآن في الباكستان) لأب كان يعمل في مجال الصحة الوقائية. ثم أنتقل لبريطانيا لإكمال تعليمه في جامعة كمبردج متخصصا في العلوم الطبيعية. غير أن قيام الحرب العالمية الثانية غير من مسار حياته، فقطع دراسته في الجامعة بصورة مؤقتة والتحق وهو فوق سن العشرين بقليل بالجيش البريطاني، والذي بعث به لفرقة في شمال أفريقيا كقائد للدبابات (tank commander) مع من كانوا يسمون “جرذان الصحراء”. وأصيب دبابته في إحدى المعارك ففقد كثير ممن كانوا معه حياتهم، وأصيب هو في إحدى رجليه إصابة بالغة ظلت آثارها معه طوال حياته مما دعا الجيش لسحبه من الخدمة والحاقه بوظيفة معلم رماية، وهو ما لم يجده كلاودسيلي ? طومسون ملائما لطبعه المقاتل المغامر فوجد حيلة ما أقنع بها الأطباء أنه في تمام الصحة والعافية وعاد للجبهة لقيادة الدبابات في معركة D-day الشهيرة في يونيو من عام 1944م. ثم غامر الرجل بعدها بشهر واحد بالقيام بعملية غاية في الخطورة سميت بـ Operation Goodwood ، كانت تعد أكبر معركة بالدبابات خاضها الجيش البريطاني في تاريخه، وكاد أن يفقد فيها كلاودسيلي ? طومسون حياته.
وغيرت تلك المغامرة في الصحراء من مجرى حياة الرجل بالكلية، فعشق الصحراء وأحب استكشافها وفك الغاز الحياة على أرضها الصعبة المراس. وقبل أن يبدأ دراساته العليا بدأ، وهو في تلك السنة الباكرة في الاهتمام البحثي بالتماسيح والعناكب والمئويات والعقارب (ونشر – بالاشتراك- فيما أقبل من سنوات 45 بحثا أصيلا عن بيولوجيا العقارب فقط)، وربَّى عنده ثعلبا صغيرا ابتاعه من أحد الأهالي (ربما كتعويذة mascot تجلب الحظ، كما كان بعض الجنود يفعلون!) وسماه “نوبال”. وقام ذات مرة “نوبال” هذا بالاختفاء في داخل محرك الدبابة مما أضطر كامل السرب للتأخر حتى يعثر كلاودسيلي ? طومسون على حيوانه المحبوب. وهذا بالطبع من بعض دلائل “غرابة أطوار” ذلك الرجل الإنجليزي !
وفي عام 1944م تزوج من آن كلاودسيلي واضاف الزوجان المحبان اسمي عائلتيهما معا في اسم واحد، وقضت آن معه بقية عمرها، حيث عملت في السودان ممرضة وخبيرة علاج طبيعي في مستشفى أمدرمان. وبعد الحرب عاد الرجل لإكمال دراسته فنال درجتي الماجستير والدكتوراه من جامعة كمبردج وتعين محاضرا في علم الأحياء بجامعة لندن. غير أن الشوق لحياة الصحراء ودراسة بيولوجية حيواناتها استبد به فسعى للالتحاق أستاذا بجامعة الخرطوم في عام 1960م في قسم علم الأحياء، وأمينا لمتحف التاريخ الطبيعي، وظل بالسودان لنحو عقد من الزمان جاب فيه البلاد من أقصاها إلى أقصاها. ثم عاد بعد ذلك للعمل في جامعة لندن في عام 1972م ، والتي بقي فيها حتى تقاعده في عام 1986م، حيث منح بعد ذلك فيها درجة “أستاذ فخري”.
وظل كلاودسيلي ? طومسون (وحتى قبيل وفاته في 2013م بسنوات قليلة) في حالة عمل مستمر في البحث والنشر والعمل كرئيس لعدد من الجمعيات العلمية والدوريات العالمية المتخصصة. ولشغفه بتاريخ الحياة وأصلها نشر في عام 2005م مجلدا ضخما عن سلوك الزواحف في ما سمي بعصر الدهر الوسيط (Mesozoic era) قبل نحو 70 ? 250 مليون عاما. ثم نشر بعد ذلك مذكراته عن سنوات الحرب العالمية الثانية في كتاب صدر في 2006م بعنوان Sharpshooter
وعرف كلاودسيلي ? طومسون، علاوة على غرامه بالبحث والنشر، بحبه للتدريس والتعرف على الطلاب وأفكارهم وحياتهم ومشاكلهم عن قرب، واشتهر أيضا بالبعد عن المظاهر والشكليات ولبوس مظهر الصرامة والجد التي كثيرا ما تراها وتلمسها عند كبار الأساتذة، لدرجة أن بعض طلاب الدراسات العليا الذين كانوا يعملون تحت إشرافه كانوا يصفونه بكل ما يمكن أن يوصف به أب حنون وشفوق وصبور، وغريب الأطوار أيضا! فقد كان في سنوات عمله بجامعة لندن في سبعينيات القرن الماضي، ورغم سنه المتقدم نسبيا، يرتدي (كما كان يفعل شباب تلك الأيام) بدلة من الجلد ويضع على رأسه خوذة ويلبس نظارات واقية من الرياح وهو يمتطي دراجة بخارية ضخمة، ولا يستخدم السيارة أبدا في تنقلاته داخل المدينة.
ونشر كلاودسيلي ? طومسون في خلال مسيرته العلمية أكثر من خمسين كتابا علميا متخصصا وعاما، والمئات من الأوراق العلمية في أعرق وأهم الدوريات العلمية، والتي درس فيها بتعمق بعض جوانب فيزيولوجيا وسلوكيات بعض الحيوانات المائية (مثل التماسيح) والحيوانات الصحراوية (مثل دراسته المشهورة عن الغزال الصحراوي وقدرته الهائلة على تحمل العطش والجوع مع طالبته السودانية لوريس غبريال، والتي نشرت في ورقتين في المجلة العلمية الأولى في العالم المسماة “الطبيعة Nature” في منتصف ستينيات القرن الماضي). وقد شرفت على المستوى الشخصي بتضمين مراجع ورقة علمية متواضعة لي مع طالب للماجستير من معهد الدراسات البيئية في 1983م عن هذا الحيوان، أحد أبحاث كلاودسيلي ? طومسون مع طالبته السودانية تلك. ونشر أيضا كلاودسيلي ? طومسون في ذات المجلة العلمية ذائعة الصيت ورقة علمية مع (البروفسيور الآن) أحمد عبد المجيد، ومع آخرين كثر من الطلاب والأساتذة السودانيين.
وكان كلاودسيلي ? طومسون من المحبين المخلصين للسودان وشعبه، وجمع في غضون سنواته بالبلاد تحفا كثيرة من التراث السوداني كان يريها بفخر شديد لزوار بيته في لندن. ورغم أنه عمل ? ولفترات متفاوتة – في كثير من البلدان، إلا أن ما قضاه من سنوات في السودان كانت ? كما كان يردد دوما- هي أخصب سنوات عمره. وكان رجلا بسيطا متواضعا مع كل الناس دون اعتبار للون أو دين أو لغة، ويعشق (خلافا لما جبل عليه كثير من الأكاديميين و”المتأكدمين”!) ارتياد المخاطر وركوب الصعاب (حقيقة وليس مجازا)، وكان له شغف خاص بأنواع من الحيوانات تقشعر منها جلود كثير من الناس مثل التماسيح والعقارب وغيرها. فمن طريف ما روي عنه أنه كان يحتفظ في الخرطوم بتمساح صغير في حظيرة في بيته. ولكن ذلك التمساح تمكن من الهرب مما أثار هلع السكان حوله فأبلغوا الأمر للشرطة، والتي قامت بإطلاق الرصاص على ذلك الحيوان الخطير وقتلته. وتقدمت الشرطة ببلاغ ضد كلاودسيلي ? طومسون متهمة إياه بالإهمال وتعريض حياة المواطنين للخطر. وهنا فوجئت الشرطة بأن كلاودسيلي ? طومسون قد تقدم أيضا ببلاغ مضاد يتهمها فيها بالجور على الحيوانات البرية، وتخريب البيئة الطبيعية بالبلاد! واضطرت الشرطة لسحب بلاغها ضده بعد أن وافق هو على سحب بلاغه ضدها أيضا.
لا ريب أن العالم قد فقد بموت كلاودسيلي ? طومسون رجلا عالما فذا (من النوع القديم) الذي يجيد أكثر من صنعة، ويحسن أكثر من فن، ويأخذ عمله (وليس نفسه) على محمل الجد.
لقد قدم الرجل لجامعة الخرطوم، وقسم علم الأحياء بوجه خاص الكثير من جلائل الأعمال التدريسية والبحثية والخدمية. ولا أدرى أن كانت الجامعة قد كرمته حيا أو ميتا، أو أنها تفكر في تكريم ذكراه بصورة من الصور، ولو بإطلاق اسمه على أحد المعامل أو القاعات الدراسية أو نحو ذلك، فما من خصلة أردأ من الجحود ونكران الجميل.
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. مقال رائع ويعد في حد ذاته تكريما لهذه الشخصية القامة ، ولكن للأسف الأوضاع في السودان تغيرت ، والعقول تبدلت ، وأصبح إطلاق اللحية لركوب سيارة فخمة والزواج بأكثر من واحدة والعيش في القصور هو هم الناس الأول وليس العلم والعلماء ، وانهارت الذاكرة إلا من الرعيل الأول الذي ظل مخلصاً للقيم السودانية الرفيعة . تاركاً القيم السالبة لأبناء هذا الجيل من تحاسد وتباغض وعنصرية وتوافه أخرى غرستها الإنقاذ في النفوس.
    إن السودان منهار أخلاقياً الآن ، وبالتالي فإن الذاكرة أصبحت فردية جداً ، هذا المقال أو غيره من المتفرقات ولكن لا يوجد ذاكرة مؤسسية تعرف كيف تقوم بإجترار التاريخ الذهبي الرائع لمؤسسات الدولة العلمية وغير العلمية.
    نحن اليوم أمام أراذل القوم الذين يخلقون هالات حول أنفسهم بالسلطة أو حمل السلاح وعقولهم خاوية وعلى قلوب أقفالها .

  2. شكرا استاذ بدر الدين فدائما تتحفنا بالنادر من المعلومات. وحين تسأل هل قامت أو ستقوم جامعة الخرطو بتكريم هذا العالم فإنك بالتأكيد تتكلم عن جامعة وفي مخيلتك أيام دراستك فيها. هي الآن ليس كذلك وبصراحة حرام أن تتمتع بهذا الإسم حتى الآن لأنها ليست جامعة عندما أقارنها بجامعة عمرها لا يتجاوز 20 سنة ولكن خريجيها من ااعيار الثقيل. أسأل عن الجامعة الأمريكية في الشارقة ثم قارن. ثانيا هؤلاء القوم لا يكرمون غير المطربين.
    والله كتبت هذا التعليق قبل أن أقرأ التعليق الذي أدناه فإذا بي أفجأ بتطابق أفكاري مع أفكار دكتور أمل.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..